
فلسطين ولادة نظام عالمي جديد وتحولات في موازين القوى في تطور لافت للموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية، أعلنت فرنسا ثم بريطانيا وكندا – في خطوات متقاربة – عن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، ما اعتُبر على نطاق واسع ليس فقط دعمًا سياسيًا للشعب الفلسطيني، بل مؤشرًا على تحولات أعمق في النظام العالمي الحالي، والذي يشهد إعادة تشكيل توازنات القوة نحو عالم متعدد الأقطاب، تُعيد فيه روسيا والصين رسم خرائط التحالفات.
الاعتراف بفلسطين: خطوة سياسية أم تحوّل استراتيجي؟
لطالما ترددت الدول الغربية الكبرى في الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، مفضّلة دعم “حل الدولتين” نظريًا، دون اتخاذ إجراءات قانونية ملموسة. لكن التطورات الدراماتيكية في غزة والضفة الغربية، والانكشاف الكبير للمعايير المزدوجة التي تعتمدها أوروبا والولايات المتحدة في التعامل مع النزاعات الدولية، ولا سيما مقارنة الموقف من حرب أوكرانيا مع الموقف من فلسطين، ساهمت في تغيير هذا الواقع.
ويأتي هذا الاعتراف بعد قرارات مماثلة من دول أوروبية أصغر مثل إيرلندا وإسبانيا، في حين تشير تقارير دبلوماسية إلى ضغوط شعبية وسياسية تتصاعد داخل الاتحاد الأوروبي تدفع باتجاه مواقف أكثر توازنًا تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
العالم متعدد الأقطاب: روسيا والصين في قلب المشهد
الاعتراف الغربي بفلسطين قد يبدو لأول وهلة انتصارًا دبلوماسيًا للعدالة، لكنه أيضًا يعكس قلقًا استراتيجيًا متزايدًا داخل أوروبا من تراجع نفوذها في الشرق الأوسط لصالح موسكو وبكين. ففي ظل السياسات الغربية التي تُعامل أوكرانيا كقضية أخلاقية وإنسانية، بينما تتجاهل مأساة الفلسطينيين لعقود، بدأت الدول العربية، لا سيما الغنية بالنفط والغاز، بإعادة تقييم خياراتها الجيوسياسية.
وتُشير تحركات السعودية والإمارات وقطر نحو تنويع الشراكات الاقتصادية والعسكرية مع الصين وروسيا، وتوسيع التعاون ضمن مجموعة “بريكس”، إلى اتجاه متزايد للانفكاك عن التبعية التاريخية للغرب. وهو ما يضع أوروبا أمام خيار صعب: إما إعادة ضبط سياساتها الخارجية وفق مبادئ أكثر اتساقًا، أو خسارة الشرق الأوسط كلاعب استراتيجي لصالح القوى الصاعدة.
ازدواجية المعايير: جوهر الأزمة الأخلاقية الغربية
يُعد أبرز ما كشفته الحرب على غزة هو عمق الازدواجية في المواقف الغربية. ففي حين يُعد دعم المقاومة الأوكرانية ضد روسيا “حقًا مشروعًا”، يُجرّم دعم المقاومة الفلسطينية. وبينما تُدان الهجمات الروسية على البنية التحتية المدنية، تُبرر الهجمات الإسرائيلية على مستشفيات ومخيمات لاجئين بأنها “دفاع عن النفس”. هذا التناقض لا يمرّ مرور الكرام لدى شعوب ودول العالم، التي باتت تُعيد النظر في خطاب “القيم” الذي ترفعه الدول الغربية.
هل تتجه المنطقة شرقًا؟
الخوف الأوروبي من فقدان النفوذ في الشرق الأوسط أمام الصين وروسيا ليس مبالغًا فيه. فدول الخليج، التي لطالما ربطتها شراكات عميقة بالغرب، أصبحت ترى في بكين شريكًا اقتصاديًا مستقرًا لا يُملي شروطًا سياسية، وفي موسكو لاعبًا أمنيًا يمكن الاعتماد عليه في التوازنات الإقليمية.
وإذا استمرت السياسات الغربية في غض الطرف عن حقوق الشعوب خارج أوروبا، وخاصة في فلسطين، فإن انزياح المنطقة تحت مظلة “الشرق الجديد” لن يكون مجرد احتمال، بل تحوّل حتمي.
في الختام:
اعتراف فرنسا وبريطانيا وكندا بدولة فلسطين ليس فقط تصحيحًا سياسيًا متأخرًا، بل إشارة واضحة إلى أن النظام العالمي القديم القائم على القطبية الواحدة يقترب من نهايته. ومع صعود قوى مثل الصين وروسيا، وتراجع الثقة بالدول الغربية كمرجعية أخلاقية، فإننا نشهد بداية عالم جديد، تتعدد فيه مراكز التأثير، وتُعاد فيه صياغة التحالفات على أسس المصالح والاحترام المتبادل، لا على موروثات القوة الاستعمارية.